فصل: تفسير الآية رقم (54):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (51):

القول في تأويل قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} [51].
{تُرْجِي} بهمز وغير همز، أي: تترك وتؤخر: {مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} أي: من هؤلاء النساء اللاتي أحللناهن لك، فلا تتزوج بهن: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء} أي: تضم من تشاء منهن بالتزويج: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} أي: اخترت تزوجها بعد إرجائها: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي: في أن تضمها إليك. ومن رأي بعضهم أن الضمير في: {مِنْهُنَّ} يعود إلى الواهبات. قال الشعبي: كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم: فدخل ببعض وأرجأ بعضهن، لم ينكحن بعده، منهن أم شريك، واستؤنس بحديث عائشة عند أحمد أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتقول: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فلما أنزل الله: {تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} الآية قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. ورواه البخاري أيضاً كما تقدم. وذهب آخرون إلى أن معنى الآية: تطلّق وتخلّي سبيل من شئت من نسائك، وتمسك من شئت منهن فلا تطلق. وعن قتادة: أنها في القَسم، وأن له أن يقسم لمن شاء، ويدعه لمن شاء، مع هذا فلم يكن صلّى الله عليه وسلم يدع القَسم. وقد احتج بالآية من ذهب إلى أن القسم لم يكن واجباً عليه صلّى الله عليه وسلم. والتحقيق أن الآية عامة في ذلك كله، وأن ما روي مما ذكر، فمن باب الاكتفاء من العام على بعض أفراده، أو من رأي ذهب إليه قائله. وقوله تعالى: {ذَلِكَ} أي: ما ذكر من تفويض الأمر إلى مشيئتك، ورفع الحرج عنك فيه: {أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي: تطيب أنفسهن، إن علمن أن ذلك من الله تعالى: {وَلَا يَحْزَنَّ} لمخالفة الإرجاء: {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي: لأنه حكم، كلهن فيه سواء، فإن سويت بينهن وجدن ذلك تفضيلاً، وإلا علمن أنه بحكم الله تعالى، فتطمئن به نفوسهن: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أي: من الميل إلى البعض منهن دون البعض بالمحبة: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} أي: بذات الصدور: {حَلِيماً} أي: ذا حلم عن عباده فيعفو ويغفر. وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل. ثم يقول: «اللهم! هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». يعني القلب.

.تفسير الآية رقم (52):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} [52].
{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ} أي: من بعد النساء اللاتي نص إحلالهن لك في الآية قبلُ. وانظر إلى تكريمه تعالى لنبيه صلوات الله عليه حيث لم يقل له: وحرم عليك ما وراء ذلك. كما خاطب المؤمنين بنظيره، لتعلم كيف تتفاوت الناس بالخطاب تفاوتهم في رفيع الدرجات.
ولم أر أحداً نبه على ذلك، فاحرص عليه فيه، وفي أمثاله.
قال مجاهد في الآية: أي: لا يحل لك يهودية ولا نصرانية ولا كافرة: {وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: فلك التسري بهن وإن كن كتابيات أو مشركات؛ لأنه ليس لهن ما للحرائر: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} أي: حيث أحل ما أحل، وحظر ما حظر للنبي وللأمة، في بيانٍ لا خفاء معه، وحكمة لا حيف معها. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية هو حظر نكاح ما بعد التسع اللاتي عنده صلّى الله عليه وسلم، وأن التسع نصابه كالأربع لغيره، وأن ذلك جزاء لاختيارهن إياه لما خيّرهن، كما تقدم في الآية، ثم قالوا إنه تعالى رفع الحرج عنه في ذلك، ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التزوج، لكنه لم يفعله إتماماً للمنّة عليهن. ومنهم من قال إنها محكمة. وكل ذلك لا برهان معه، وتفكيك للمعنى، وغفلة عن سر تكريمه صلوات الله عليه بمقصود الخطاب، وقد وهم في هذا المعنى زياد- رجل من الأنصار- فرده أُبي رضي الله عنه، إلى صواب المعنى؛ وذلك فيما رواه عبد الله ابن أحمد وابن جرير أن زياداً قال لأُبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم توفين، أما كان له أن يتزوج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ} فقال له: إنما أحل الله له ضرباً من النساء. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ}، إلى قوله: {إن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ثم قيل له: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ}.
وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، بقوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} الآية. فحرم كل ذات دين غير الإسلام.
والمطلع على ما كتبوه هنا، يأخذه العجب من البعد عن مقصدها. فالحمد لله على إلهام الحق وتعليمه.
تنبيه:
قال في لباب التأويل: في قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} دليل على جواز النظر من الرجل إلى التي يريد نكاحها من النساء، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل». أخرجه أبو داود.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإن في أَعْيَن الأنصار شيئاً». قال الحميدي: يعني هو الصغر.
وعن المغيرة بن شعبة قال: خطبتُ امرأةً. فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «هل نظرت إليها؟» قلت: لا. قال: «فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما». أخرجه الترمذي وحسنه.

.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} [53].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} هذا خطاب لبعض الصحب، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلّى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام. و{إِلَى} متعلق بـ: {يُؤْذَنَ} بتضمين معنى الدعاء، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة، وإن تحقق إذن، كما يشعر به قوله تعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي: غير منتظرين وقته، وإدراكه.
قال ابن كثير: أي: لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل على تحريم التطفل، وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. انتهى.
وأقول: قد يكون معنى قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} نهياً لهم أن يدخلوا- مع كونهم مأذوناً لهم ومدعوين- قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه، عجلة وانتظاراً لنضج الطعام. فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة، إلا ضيق صدر الداعي وأهله، وشغل وقته وتوليد حديث، وتكلفاً لكلام لا ضرورة له، وإطاقة زمن الحجاب على نسائه، وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت، ولذلك قال تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} أي: إذا دعيتم إلى الدخول، في وقته، فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده. فـ: {لَكِنْ} استدراك من النهي عن الدخول، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر، وإفادة شرط مهم، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حيناً ووقتاً يجب أن يراعى زمنه، وهذا المنهي عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين، ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات، مما يغم نفس الداعي وأهله، ويذهب لهم جانباً من عزيز وقتهم عبثاً إلا في سماع حديثهم البارد، وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا، فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة، وحكم مهم، وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر، وحينئذ فكلمة: غير، حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه، وهو أن يكون وقت الدعوة، لا قبله. والتقدير: إلا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه. ولذا قيل: إنها آية الثقلاء. إذا علمت هذا، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية، وهو: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} ومن قوله: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} لا من قوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} لأنه في معنى خاص، وهو ما ذكرناه، والله أعلم.
فائدة:
الإني: مصدر. يقال أنى الشيء يأنى أنياً بالفتح. وأنى: مفتوحاً مقصوراً.
وإنى: بالكسر مقصوراً، أي: حان وأدرك. قال عَمْرو بن حسان:
تَمَخَّضَتِ الْمَنُوْنَ لَهُ بِيَوْمٍ ** أَنَىْ وَلِكُلِّ حَاْمِلَةٍ تَمَاْمُ

ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} أي: تفرقوا ولا تمكثوا: {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: لحديث بعضكم بعضاً، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظرين، أو مقدر بفعل، أي: لا تمكثوا مستأنسين: {إِنَّ ذَلِكُمْ} أي: المنهي عنه في الآية: {كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أي: لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه: {فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} أي: من الإشارة إليكم بالانتشار: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحييّ، فأمركم به. ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه. وقرئ: {لَا يَسْتَحِي} بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} الضمير لنساء النبي، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام: {مَتَاعاً} أي: شيئاً يتمتع به: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} أي: ستر: {ذَلِكُمْ} أي: ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب: {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي: من الخواطر الشيطانية، في الميل إليهن وإليكم، يعني ويجب التطهر عنه، لما فيه من إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولذا قال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أي: أن تفعلوا فعلاً يتأذى به في حياته: {وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل: {أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} أي: أمراً عظيماً وخطباً هائلاً، لا يقادر قدره؛ لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلّى الله عليه وسلم.
قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإيجاب حرمته حياً وميتاً، ما لا يخفى، ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال:

.تفسير الآية رقم (54):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [54].
{إِن تُبْدُوا شَيْئاً} أي: مما لا خير فيه، كنكاحهن على ألسنتكم، على ما روي عن بعض الجفاة: {أَوْ تُخْفُوهُ} أي: في نفوسكم: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} أي: فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد.
قال ابن كثير: أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أزواجه، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده؛ لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وأمهات المؤمنين، واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته، هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على قولين. مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله: {مِنْ بَعْدِهِ} أم لا؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فما نعلم في حلها لغيره، والحالة هذه نزاعاً، والله أعلم. انتهى.
تنبيه:
في الإكليل: هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين، بعد أن كان النساء لا يحتجبن، وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن، وفيها تحريم أذى النبي صلّى الله عليه وسلم بسائر وجوه الأذى. انتهى.
وقال ابن كثير: هذه آية الحجاب، وفيها أحكام، وآداب شرعية، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه، كما روى البخاري عنه أنه قال: «يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر. فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب!» فأنزل الله آية الحجاب.
وكان يقول لو أطاع فيكن، ما رأتكن عين. وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة، في قول قتادة والواقدي وغيرهما. وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى، وخليفة بن خياط، أن ذلك كان في سنة ثلاث. فالله أعلم.
وروى البخاري عن أنس قال: لما تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام، قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية.
ورواه مسلم أيضاً والنسائي.
وعن أنس أيضاً قال: بني على النبي صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو. فقلت: يا رسول الله! ما أجد أحداً أدعوه. قال: «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت. فخرج النبي صلّى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته». قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. كيف وجدت أهلك؟ يا رسول الله! بارك الله لك.
فتقرى حجر نسائه كلهن. يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون- وكان النبي صلّى الله عليه وسلم شديد الحياء- فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة. فما أدري آخبرته أو أُخبر، أن القوم خرجوا. فرجع، حتى إذا وضع رجله في أسكفّة الباب داخلة، والأخرى خارجة، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب. انفرد به البخاري، وأخرج نحوه مسلم والترمذي، كما بسطه ابن كثير. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف، في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يُستر شخصها. انتهى.
وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، وقد كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص، وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء، لما ذكر له طواف عائشة: أقبل الحجاب أو بعده؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب. انتهى.
ومما يؤيده ما رواه البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها. قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة، لا تخفى على من يعرفها. فرآها عُمَر بن الخطاب. فقال: يا سودة! أما والله! ما تخفين علينا. فانظري كيف تخرجين. قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عرقٌ، فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا. قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجنّ لحاجتكن.
قال الكرماني: فإن قلت وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب وفي الوضوء- أي: من البخاري- أنه كان قبل الحجاب. فالجواب لعله وقع مرتين.
قال ابن حجر: قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني.
والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: احجب نساءك، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً، ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن، دفعاً للمشقة، ورفعاً للحرج، انتهى بحروفه. وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين، مع أن الأمس به شرح الصحيح، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية، مما يوقع الواقف في شبهة الاختلاف، فآثرنا توسيع الكلام لتقيق المقام. زادنا الله من فضله علماً، إنه هو العليم العلام.
ثم يبين تعالى من لا يجب الاحتجاب منهم من الأقارب، بقوله: